الحداثة الغربية... هل هي طريق صالح للتقدم؟
كيف يمكن للعالم الإسلامي الذي يرزح تحت سيطرة الاستعمار الجديد والتبعية أن يكمل تحرره من هذه السيطرة وتلك التبعية، ويبدأ في تنمية وطنية شعبية، وما هي الأداة الفكرية لعملية سياسية ومجتمعية كهذه؟ هل نقتنع بأن الاهتداء بالأسلوب الذي استخدمته المجتمعات الأوربية هو السبيل الوحيد للوصول إلى ما نبتغيه من تحرر وتقدم، خاصة وأن هذا الأسلوب قد تجسد على أرض الواقع بمظاهر وأدوات وبنيان، تشكل في مجموعها ما يطلق عليه اليوم بالحداثة الغربية؟ سؤال مركزي لا شك بأنه يواجه العقل العربي والإسلامي عموما، والمجتمعات العربية والإسلامية والأجيال الطالعة منها على وجه الخصوص، وخصوصا في ظل دعوات ونزعات تغريبية صادرة عن هذه المجتمعات تطالب بالانسياق وراء المفاهيم والقيم الغربية أملا بالخلاص من واقع التخلف. تعريف الحداثة على عكس ما حمله المثقفون العرب من حمولات أيديولوجية وغرضية، فإن مصطلح الحداثة، الأوروبي المنشأ، قد أفاد عند ظهوره في القرون الوسطى، وفي فرنسا بالذات، الأعضاء الجدد في هيئة القضاة الذين هم من الشباب، أنتخبوا وعينهم الملك ليعوضوا زملاءهم في مهمة القضاة في المركز. والمعنى الذي كانت تنطوي عليه كلمة محدثون في هذا السياق هي التجديد الدوري الزمني في تعيين هؤلاء الحكام، وكذلك معنى الاستمرارية في تجديد تعيين هؤلاء القضاة. ولم يقترن معنى كلمة الحداثة في هذا الطور التاريخي دائما بمعنى المحبذ الإيجابي الذي يتعلق به الجميع على أنه أفضل من القديم في كل الوجوه. على كل حال، فإن الحداثة -مصطلحا وموضوعا- تعد من القضايا النسبية الكثيرة التعقيدات، لذا فإن الدخول في مجال تعريفاتها المتعددة قد يدخل القارئ بملابسات هو بغنى عنها، وعليه فقد اكتفينا بتأصيل مفهوم الحداثة ورده إلى السياق والظروف التي نشأ فيها كمصطلح ومفهوم. الحداثة في السياق العربي والإسلامي: ترد الكثير من الكتابات العربية المعاصرة مسألة ظهور الحداثة في العالمين العربي والإسلامي إلى حاكم مصر محمد علي الألباني في الجانب السياسي، وإلى رفاعة الطهطاوي في المجال الفكري، على اعتبار أن الأول قد قام بتطوير بعض نظم الحياة في الزراعة والصناعة والتجارة في مصر، في حين دعا الثاني إلى ضرورة الاستفادة من المنهج الغربي في التطور لكونه قائما على العلم والنظام. إلا أنه وللحقيقة، فإن فكرة الحداثة في العالمين العربي والإسلامي قد انطلقت من شبه الجزيرة العربية، وتحديدا على يد محمد بن عبد الوهاب، مؤسس الحركة الوهابية. وذلك عبر دعوته إلى تخليص الإسلام مما لحق به من شوائب وبدع، وإنكاره لإغلاق باب الاجتهاد في أمور الدين. وبذلك يكون ابن عبد الوهاب، إضافة لمحاربته الجهل، قد فتح الباب واسعا أمام انطلاقة تنويرية إسلامية، ميزتها الأساسية مراعاتها للواقع الاجتماعي والمادي للبيئة التي تحيا بها. وقد استطاعت الحركة الوهابية أن تحقق انطلاقة حداثية شاملة بعد أن لقيت تجاوبا من آل سعود في الدرعية، ليتحقق بفضل هذا التلاقي اتحاد الجزيرة العربية، وتتجسد الحداثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الأرض الإسلامية منذ القرن الثامن عشر. وشهد الربع الأخير من القرن التاسع عشر بروز جيل من المثقفين المسلمين والعرب الذين التقطوا الأفكار الحداثية، إلا أن عطاءهم، ونظرا للظروف التي يعيشها العالم الإسلامي في حينه تميزت بالرد على الغزو الفكري الغربي، وأخذت موقف الدفاع الفكري. فهذا جمال الدين الأفغاني يرد على الدهريين ساعيا لإصلاح العقيدة ورافضا المذهب المادي. وهذا محمد عبده يرد على منتقدي الإسلام ومنهم أرنست رينان. وهذا قاسم أمين يرد على داركور. ويرد حسين الجسر أيضا على النظريات الغربية بتبيان حقيقة الديانة الإسلامية. وعلى صعيد المعاصرين نجد المفكر والمؤرخ هشام جعيط، صاحب الفكر الحداثي يقول في كتابه الشخصية العربية الإسلامية والمصير: ما عسى أن تكون الحركة العميقة التي من شأنها أن تحرك الكيان العربي الإسلامي، لا تحديثية على طريقة الغرب، ولا ماركسية إننا نرفض الحداثة بصفتها الأيديولوجية، والماركسية تزعزع كثيرا من المكاسب القيمية . ويضيف جعيط: إنه من الطبيعيأن يلجأ المثقف العربي المعاصر إلى استلهام التراث والتاريخ والماضي المجيد لإثبات الأنا التاريخي والهوية الحضارية تجاه حضارة معادية. فكيف الوصول إذا إلى غرس مقومات الحداثة في تربة مجتمعنا دون أن يفقده تقاليده الإسلامية؟ يقول جعيط: المقصود أن تضفي على التحديث الصفة القومية والمناخية. وأن يزوج بالشخصية العميقةفلن يتم أي شيء صالح في المجال الإسلامي إذا لم تراجع ثلاثة عناصر رئيسية في وجوده: الدين وموقعه من المجتمع، والإنسان ذاته وشخصيته، والعلائق بين الدولة والمجتمع. أما حسن حنفي، المفكر المصري، فإنه يرى الحداثة والتجديد عملية حضارية تقوم على اكتشاف التراث والتاريخ، وهو حاجة ملحة، ومطلب ثوري في وجداننا المعاصر. وهكذا يكون الخوض في التراث لتحقيق التجديد في نهاية المطاف بحثا عن الهوية الحضارية، فالحاضر في نظر حنفي ما هو إلا تراكم الماضي. الحداثة الغربية، هل هي الطريق الوحيد الصالح؟ يرى أوغست كونت، عالم الاجتماع الألماني، أن الحضارة ظاهرة بشرية كونية موحدة الحلقات والأدوار التاريخية. تطورت من البسيط الساذج إلى المركب المعقد في العصور التاريخية الأخيرة ومن الفوضى والانعزال إلى الانتظام والاتصال. وهي ظاهرة إنسانية تتطور باستمرار نحو الأفضل والأحسن. ويعني ذلك بالتالي أن الحضارة الغربية الجرمانية والأنكلوسكسونية هي المجسمة للدور التاريخي الأخير وهي أفضل الحضارات، على الأقل من حيث كثرة العلوم، وسيطرة العقل الرياضي المجرد، وظهور كثير من المخترعات العلمية الآلية. نظرية كونت هذه التي كرست فكرة المركزية الأوربية في الحضارة الغربية الحديثة، وجعلتها الحضارة الأقوى في العالم الحديث، جوبهت بنظرية أخرى برزت معالمها بعد الحرب العالمية الأولى، وما خلفته من دمار للعمران البشري في أوروبا، وما شاع فيها من فلسفات وجودية عبثية في الغرب، تلك هي نظرية المفكر الألماني أوزوالد شبلنجر في كتابه انحطاط الغرب، وقد كان من أهم الذين أنكروا قيمة الحضارة الأوروبية الحديثة، ونعوا على أهلها الادعاء بمركزيتها في الكون وتهميشهم للحضارت البشرية الأخرى. فقد أكد شبلنجر على تخطئة المثقفين الأوروبيين أمثال كونت الذين قالوا بوجود حضارة بشرية واحدة متطورة الحلقات، وبين أن هذا الاعتقاد صادر عن عقلية مركزية في الغرب معجبة بذاتها إلى حد الغرور، وذلك هو عين الغلط. ويرى شبلنجر أن الحضارة الغربية قد استنفدت إمكانات التقدم فيها، وهي تعيش طور الانحلال وفي مراحلها الأخيرة. مفكر غربي معاصر هو صموئيل هانتيغتون، كتب في مقالة في مجلة السياسة الخارجية الأمريكية تحت عنوان الغرب: إنه فريد، ولكنه ليس كليا جامعا ينتقد فيها الفكرة القائلة بأن العالم يسير نحو ثقافة موحدة واحدة هي ثقافة غربية أساسا، فمثل هذا الاعتقاد متغطرس وزائف وخطر. لماذا ؟ يقول هانتغتون إن انتشار السلع الاستهلاكية الغربية لا يعني انتشار الثقافة الغربية. ويرى هانتغتون أنه لدى تعرض البلدان لعلمية التحديث قد تتغرب بأشكال سطحية دون أن تفعل ذلك على صعيد الأبعاد الأكثر أهمية للثقافة، أي على صعيد اللغة والدين والقيم، ويضيف أن البلدان حين تتحدث تلوذ بثقافاتها ودياناتها التقليدية الضيقة هربا من العالم الحديث. ففي مختلف أرجاء الكرة الأرضية يفضي التعليم والديموقراطية إلى التأصيل، ومع تراجع قوة الغرب سيصبح ما عدا هذا الغرب أكثر تأكيدا لذاته. ويتساءل هانتغتون هل يتعين على المجتمعات غير الغربية إذا أرادت أن تتحدث، أن تتخلى عن ثقافتها الخاصة، وتتبنى عناصر الثقافة الغربية الجوهرية. ويجيب: من حين لآخر ظن قادة لمجتمعات غير غربية أن مثل ذلك الأمر ضرورة إلا أن هذه العملية لم تؤد إلا لخلق بلدان ممزقة -تركيا وروسيا- وغير واثقة بهويتها الثقافية. كما أن البضائع الثقافية الغربية المستوردة لم تساعدهما مساعدة ذات شأن في مساعيهما إلى التحديث. ويخلص إلى القول إن الاعتقاد بأن على الشعوب غير الغربية أن تتبنى القيم الغربية بمؤسساتها وثقافاتها، إذا ما أخذ مأخذ الجد، هو اعتقاد لا أخلاقي بما ينطوي عليه من معان. فقد آن للغرب أن يتخلى عن وهم الكلية ويبادر إلى الدفاع عن قوة وتناغم وحيوية حضارته في عالم مأهول بعدد من الحضارات. حداثة الغرب بالإضافة لكونها واهمة، منافقة ومغرضة ينتمي التمركز الأوروبي، (أي نظرة الغرب إلى نفسه على أنه مركز الحضارة) إلى مجموعة من الرؤى ذات الطابع الثقافي. حيث إنه يقوم على افتراض تواجد مسالك تطور خاصة لمختلف الشعوب لا يمكن إرجاعها إلى فعل قوانين عامة تنطبق على الجميع. فله طابع مضاد للعالمية، ولا يهتم لكشف القوانين العامة التي تحكم تطور جميع المجتمعات، إلا أنه يتقدم في ثياب العالمية، إذ أنه يقترح على الجميع محاكاة النمط الغربي بصفته الأسلوب الفعال الوحيد لمواجهة تحديات العصر. لكن إلى أي مدى يصدق الغرب مع ذاته ومع طروحاته؟ أهم ما يتميز به الغرب المعاصر هذا استخدامه لمعايير مزدوجة، وخاصة في تعامله مع الإسلام، ففي الوقت الذي بارك فيه الغرب دور الكنيسة في التحولات في أوروبا الشرقية، نظر بعين الشك إلى دور الإسلام في التحول السياسي في المنطقة الإسلامية. فالجزائر وتركيا حالتان واضحتان، ولهما دلالات لا تخفى على كل ذي عينين. فلقد أضحت المشكلة الجزائرية التحقيق في المذابح بدلا من التحول الديموقراطي، وكذلك فإن القيام بحل حزب الرفاه الإسلامي في تركيا وحرمان زعيمه أربكان من ممارسة حقوقه السياسية ليس من اهتمامات الغرب الداعي إلى حرية التعبير والمشاركة السياسية . ولكن لماذا هذا الجهل والتعامي والنفاق تجاه الإسلام؟ جون اسبوزيتو، مفكر غربي، يرد أسباب ذلك إلى كون معظم الغربيين الدارسين للشأن الإسلامي يتعرفون على الإسلام من خلال نخب تماثلهم في عقلياتهم المتغربة الحديثة. فمعظم الدراسات الغربية ترى المجتمعات المسلمة من منظور نظرية للتطور تستند مبادئها على أسس وقيم وتوقعات علمانية وغربية. ويضيف أن الخبراء حللوا المجتمعات وحكموا عليها على نحو ما تديرها النخبة، أي من أعلى إلى أسفل، فكان أن تركزت على قطاع علماني ضيق في المجتمع، فساووا بين العلمنة والتقدم من ناحية، والدين والتخلف والمحافظة من ناحية أخرى، معتقدين أن التحديث والتغريب متداخلان بالضرورة. ونتيجة لهذا فإن البدائل المتاحة للتطور السياسي والاجتماعي في المجتمعات المسلمة غالبا ما كانت ترى في ثنائيات استقطابية هي التي وصفت مؤخرا بأنها صدام بين الحضارات، الشد والجذب ما بين التقليد والحداثة، وما بين الماضي والمستقبل، وما بين الحجاب والملابس والقيم الغربية.