أطفال الطلاق جرح ينزف في أعماق المجتمع المغربي
يشكل أطفال الطلاق الضحية الأولى للتفكك الأسري، فعليهم تقع تبعات أبغض الحلال، الذي اتسعت رقعته لتغطي مساحة شاسعة في الواقع الاجتماعي المعاصر في كثير من البلدان العربية والإسلامية، وبينها المغرب. ومع ارتفاع عدد التجارب الزوجية الفاشلة، ترتفع أعداد أطفال الطلاق الذين باتوا يشكلون شريحة واسعة، سواء في قوائم أطفال الشوارع المرتمين في متاهات الانحراف، أو في مجال تشغيل الأطفال حيث ينافسون الأيتام. وهناك بين المحللين الاجتماعيين من يعتبر أطفال الطلاق أسوأ حالا من الأيتام. فأطفال الطلاق يفتقدون الآباء والأمهات في وقت واحد، لأن كلا منهما ينغمس في البحث عن شريك بديل يأخذ حيزا هاما من الاهتمام. وأيضا لأن كلا منهما، في كثير من الحالات، يسعى لـالتخلص من بقايا العهد البائد على حد تعبير أحد المحللين المغاربة. وحيث إن طفل الطلاق يصبح ربيبا، فإنه في معظم الحالات يشكل عبئا ثقيلا بالنسبة لزوج أمه أو زوجة أبيه. وأحيانا يكون سببا في مشاكل الزواج الجديد، وربما يصبح دافعا إلى طلاق جديد. رعاية أطفال الطلاق وأول ما يطرحه الطلاق، هو رعاية الأبناء التي تجعلها القوانين المغربية في كنف الأم، وعلى مسؤولية الأب المادية. ومع وضوح الصورة على المستوى القانوني، فإنها في الواقع عكس ذلك. وتشهد المحاكم الشرعية حالات مروعة لأبناء يتنازعهم آباؤهم، أو يقوم أحد طرفي التفكك الأسري باختطاف الابن لإبعاده عن أمه، أو العكس. وحيث إن معظم حالات الطلاق تتم بين طرفين لم يقفا عند حد افتقاد الود، بل غالبا ما يتعدياه إلى التخاصم والحقد، فإن وضعية أطفال الطلاق تزداد تعقدا. ذلك أن الطفل الذي يعيش في كنف أمه المطلقة، يملك حق زيارة والده بانتظام حسب مقتضيات القانون، لكن هذه الأم غالبا ما تتحايل ساعية لمعاقبة مطلقها بحرمانه من رؤية فلذة كبده المعزولة عنه. وفي بعض الحالات، لا تملك الأم استطاعة الرعاية، لأي سبب من الأسباب، ولا تتوفر هذه الاستطاعة لأمها التي تأتي بعدها في تسلسل الرعاية، مما يجعل رعاية طفل الطلاق من حق والده. وهنا يحدث أن تصدر رغبة الانتقام عن هذا الأب فيتحايل لحرمان الأم من رؤية فلذة كبدها. كما أن هناك كثيرا من الحالات التي يسلم فيها طرفا الخلاف بواقع الأمر، ويحسنا تدبير حياة أبنائهما في ظل طلاق قائم. وغالبا ما يعيش طفل الطلاق في كنف أمه، ويقضي العطل المدرسية عند والده. وعين المشكل في هذه الحالات، التي لا تخلو من مشاكل، تأتي من زوجة الأب، أو زوج الأم، وتتفاقم هذه المشاكل في وجود أبناء من الزواج الجديد. خاصة وأن الأب في هذه الحالة يحرص على أن يقدم لطفل الطلاق ما لا تقدمه له أمه. وهو ما يعرض عواطف هذا الطفل لتمزق شديد. التوزع بين حضنين ويستحسن الدكتور عبد الله الورديني، الباحث في علم النفس الاجتماعي، أن يستقر أطفال الطلاق في حضن واحد. ويعتبر أن أسوأ ما يمكن أن يواجهه هذا الطفل هو أن يعيش موزعا بين حضنين، في وقت يكون كل من أبويه حاملا كثيرا من الضغائن للطرف الآخر، ولا يتورع في ترديدها على مسامع طفل الطلاق، الذي لا يقبل توجيه الشتم والقذف لوالده، حتى لو كان ذلك صادرا من أمه، وكذلك العكس. كما يحذر الدكتور الورديني من مغبة السعي لإغراق طفل الطلاق في الحب المفرط، من خلال تدليله دون حدود في محاولة لتعويضه عن افتراق والديه، لأن ذلك يجعل منه شخصية غير متوازنة، ويولد لديه شعورا بالنقص وإحساسا دائما بأنه كبش ضحية. ويضيف الباحث أن طفل الطلاق، في هذه الحالة، حتى بعد أن يصير رجلا، تستمر أمه في معاملته كما لو أنه ما زال طفلا صغيرا، وكذلك الشأن بالنسبة لبنت الطلاق مع أمها. ومن هنا تبرز شخصية ولد أمه، أو بنت أمها، وأبرز ميزاتها ضعف الشخصية، والاعتماد المطلق على الغير. وبالتالي يصعب أن تعرف هذه الشخصية استقرارا في حياتها الزوجية. ويوصي بأن نعامل هذا الطفل على أساس أنه إنسان عادي، مثل كل أقرانه. ملحا على ضرورة أن نعامله كشخص، وهذا لا يعني أن نعامله كرجل كبير، ولكن كشخص عاقل. ينبغي الرد على استفساراته بوضوح، وأن نقدم له صورة الواقع دون مغالاة، وألا نحاول استغفاله أو مراوغته، لأنه سيدرك الحقيقة إن عاجلا أو آجلا. وليس من الضرورة أن نكشف له أسباب طلاق والديه، والأهم أن نركز بالمقابل على إقناعه بأن ما حدث لهما كان مجرد قضاء وقدر. ويقول الدكتور الورديني إن الطلاق، بالنسبة للأولاد، يبقى مع ذلك أحسن من حياة لا تطاق بين زوجين متنافرين متعاركين. ولذلك كان أبغض الحلال إلى الله. وينصح الأم المطلقة أن تحرص على تكوين صورة جيدة لأبنائها عن أبيهم المطلق، مهما كانت خلافاتها معه. صراعات المطلقين وتشير مصادر الجمعيات الأهلية العاملة في ميدان المرأة والطفولة، أن هناك حالات متعددة لآباء تخلوا عن دفع النفقة الواجبة شرعا للمرأة المطلقة الحاضنة لأطفال الطلاق، رغم أن بعضا من هؤلاء الآباء ميسورون جدا. ولا تخلو المحاكم المغربية من قضايا في هذا الشأن. ولو أن بعض المطلقات يتفادين اللجوء إلى القضاء متعللات بقناعتهن أو غناهن أو عائلاتهن، أو بعدم قدرتهن على دفع رسوم الدعاوي وأتعاب المحامين. وتضيف ذات المصادر أن هناك مطلقات لا يتورعن عن إخبار أطفالهن الصغار أن الأب المطلق قد مات، وانتهى الأمر، رغم أن هذا الأب حي يرزق، ويمكن أن يظهر في أية لحظة في حياة أبنائه (أطفال الطلاق). وهناك حالات لأشخاص اكتشفوا في رجولتهم أن آباءهم أحياء، بعد أن عاشوا طفولتهم يعتقدونهم أمواتا، كما أخبرتهم بذلك أمهاتهم. وفي معظم هذه الحالات يكون الآباء من الطبقة الكادحة، وتكون الأمهات من مستوى اجتماعي أرقى، اعتمادا على عائلاتهن أو على وظائفهن. تنازع الأبناء ومع تطور العلاقات الزوجية في ظل التغيرات الاجتماعية الجارية، أصبحت هذه الإشكالية تمتد لتشمل أزواجا لم ينفصلوا رسميا بمقتضى عقد طلاق، لكن انقطعت بينهم كل عرى المودة والتعايش. ولعل من أكثر الحالات تعبيرا عن ذلك، هو حالة زوجين عاملين في الرباط، ساءت علاقتهما إلى ما يشبه استحالة استمرار العشرة، فطلبت الزوجة الطلاق وفق بدع العصر. لكن زوجها طالبها، وفق ذات البدع، بأن ما عليها إلا أن تشتري طلاقها بالسعر الذي يحدده. وهو ما لم تستجب له الزوجة، التي تسعى لاستصدار حكم الطلاق من المحكمة الشرعية رغم أنف الزوج. وتطورت هذه القضية فقام الزوج بنقل ابنتهما إلى مكان لا تطاله الزوجة التي اعتبرت أنها تعرضت لاختطاف، فيما أكد الزوج أن بنته في مكان آمن بعيد عن أجواء المشاحنات، وردت الزوجة بأن راحت إلى دار أبويها وأخذت معها ولدهما. وفي هذه الحالة المعقدة، حيث يوجد الزوجان في وضعية طلاق فعلي، يتساءل المحللون الاجتماعيون ما ذنب الولد الذي افتقد أخته وهي على قيد الحياة؟ وما ذنب أخته؟ بين الغنى والفقر ويجمع الباحثون أن أطفال الطلاق من أبناء المستويات الاجتماعية الغنية، إذا أصابتهم مصيبة الطلاق، تنحصر معاناتهم على المستوى النفسي فقط. فيما ينالون كثيرا من التعويض على المستوى المادي. ويوضح الباحثون أن تبعات هذه المصيبة الاجتماعية تكون أكثر وقعا بالنسبة لأبناء الطبقات المعوزة. فعلى العكس من الفئات الغنية والمستورة، يتنازع الأزواج المطلقون من هذه الشريحة، في حالة الطلاق، بأن يحاول كل واحد أن يلقي مسؤولية الرعاية على الطرف الآخر. وحيثما استقر طفل الطلاق في هذه الحالات، فإن راعيه لا يملك لا أموالا لتلبية طلباته، ولا وقتا للاعتناء به. وهكذا فإن هذه الشريحة من أطفال الطلاق هم الذين يشكلون أغلبية أطفال الشوارع المتسكعين بين متاهات الانحراف، ما لم يدخلوا لوائح تشغيل الأطفال الذي تحرمه القوانين الدولية المطالبة بتمتيع الأطفال بحقهم في التعليم. ذكريات الطلاق هذه شهادات أشخاص كبار يسترجعون من طفولتهم ذكريات طلاق آبائهم وأمهاتهم، وكيف عاشوا تلك الحالات المفزعة، وكيف كان أثرها على حياتهم. السيدة مجيدة ميم (48 سنة)، أم لثلاثة أبناء، تتذكر أن طفولتها كانت تنغصها الخلافات المتواصلة بين والديها. وتقول إن أباها طلق أمها وأعادها إلى عصمته كي لا يجني على الأولاد، إلى أن كان الطلاق الثالث الذي فرق بينهما إلى الأبد. وتؤكد أن استحالة تعايش والديها تمت بسبب أمها التي كانت تصر على أن تفرض رأيها في الشادة والفادة، ولم تكن تقنعها تنازلات الوالد الذي تصفه بأنه كان حازما وحكيما. وتضيف هذه السيدة أنها وإخوتها عاشوا بعد ذلك في كنف والدهم مع زوجته الثانية التي أنجبت أولادا آخرين، لكن حكمة الوالد جعلت حياتهم أكثر هدوءا، حتى أن أبناء الزوجة الأولى لم يشعروا قط أنهم أطفال طلاق. وتؤكد أن رغبتها في تفادي ما وقع بين والديها جعلها تحرص على حياتها الزوجية، بالتفاهم حينا، وبتقديم التنازلات أحيانا أخرى. وتعتبر أن ذلك هو ما مكنها من الاستمتاع باستقرار عائلي يجني أولادها ثماره. السيد محمد صاد (43 سنة) أب لولد وبنت، يتذكر بحسرة طفولته الشقية. فقد كان أبوه شديد التبرم من أمه، وكثيرا ما كان يضربها فتصيح مستنجدة بالجيران، وهو ما كان يغرس الحزن العميق في صدر الطفل الصغير. وانتهت هذه العلاقة بطلاق بائن، فراح كل من الزوجين إلى طريق، وعاش الطفل مع جدته التي كانت تبذل قصارى جهدها لإسعاده. لكن ذلك لم يكن ليعوضه عن افتقاد الوالدين معا. ويحكي كيف كانت أمه تزوره بين الحين والآخر، وتأتيه محملة باللعب الجميلة والحلويات اللذيذة، لكنه كان يكسر ويرمي كل ما تأتيه به، وينغمس في بكاء شديد، لأنه يعرف أنها ستنسحب بعد لحظات وتتغيب أياما، وربما أسابيع. ويعتبر أن معاناته في الطفولة كان لها تأثير كبير في تكوين شخصيته، وأيضا في فشله في الحياة الزوجية، فخلال 13 سنة عاش خمسة تجارب زوجية، انتهت أربعة منها بالطلاق، ولا يعرف كيف ستنتهي الخامسة. ورغم يقينه أن جانبا من أسباب هذا الفشل في الحياة الزوجية يرجع له شخصيا، فإنه لا يعرف كيف يمكنه أن يتجاوز ذلك لينعم ببعض الاستقرار. السيدة مالكة تاء (37 سنة)، أم لولدين، فرق الطلاق بين أبويها وهي دون الخامسة. تنفي أي إحساس بالنقص أو الحرمان في أي مرحلة من مراحل حياتها. فقد عاشت مع والدتها، وكانت ترى أباها باستمرار. وتعتبر أن حالتها نموذجية من نوعها، مؤكدة أن الطلاق لا يشكل آفة إذا عرف الزوجان المتفارقان كيف يتعاملان مع أبنائهما. وتوضح أن والديها افترقا لاختلاف طباعهما، لكن كلا منهما كان يحرص على أن يرسم للآخر صورة مشرقة في أذهان الأبناء. فاطمة شين (55 سنة)، أم لخمسة أطفال تزوجت اثنتان منهما، تتذكر أن والداها افترقا لأنهما كان يتشاجران باستمرار لأسباب بسيطة كان بالإمكان تفاديها. وتقول إن كل واحد من والديها، بعد الطلاق، دخل تجربة زوجية ثانية. وأنها عاشت في كنف جدتها لأمها، حيث حظيت بعناية خاصة. وظلت على اتصال بأبويها اللذين أنجب كل منهما مزيدا من الأولاد، حتى أصبحت لها دزينة إخوة، بعضهم من الأم والبعض الآخر من الأب. وتعتقد هذه السيدة أن افتراق والديها هو السبب المباشر في عدم تمتعها بدراسة عالية، لكن هذا لم يمنعها من الاقتران بزوج مثقف عاشت معه أكثر من ربع قرن في وئام وانسجام، وكانت تحرص على تفادي كل ما من شأنه هز العلاقة الزوجية، حتى لو كان ذلك على حساب وجهة نظرها، أو عدم تلبية طلب من طلباتها.