انحسار الكتاب.... مسؤولية من؟!
ابتدأ الله سبحانه وتعالى أول آية سماوية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: (اقرأ)، وفيها يأمره ويأمر أمته أيضا بالقراءة، ولله عز وجل حكمة في ذلك، فالقراءة وسيلتنا الأولى في التنمية والارتقاء، والأمة لا يمكنها أن تخرج من نفق التخلف ما لم تقرأ. ونحن أمة ابتعدت عن القراءة وبالتالي عن الكتاب بعدا كبيرا، وذلك لعوامل كثيرة تتعلق بالإنسان، مثلما تتعلق بالواقع العام، وما طرأ في هذا الواقع من تحولات عملت على ظهور معايير مختلفة، أدت إلى تمييع مفهوم الثقافة الجادة نفسها، وأفول الهم المحرك للإنسان في تطوير ذاته وإغنائها عبر القراءة، إذ هناك إشكالات كثيرة تعوق هذا الإغناء، مثلما تعوق القراءة بالدرجة الأولى، وحين نتأمل واقع الكتاب العربي على صعيد النشر، نرى تراجعا كبيرا عما كان عليه هذا الكتاب في المراحل السابقة، في الستينات والسبعينات، وحتى قضية النشر أخذت تتراجع وتنحسر ضمن مواد ومواضيع وأجناس محددة، تشيع وحدها في أوساط القراء. وبصراحة إن وضعنا القرائي متدهور جدا، فهذا الجيل عازف عن القراءة لأسباب عديدة، أهمها إهمال غرس ورعاية عادة القراءة بين أبناء الجيل. ونحن نعتقد أن الطفل محب للمعرفة ومتطلع إليها بالفطرة، والقراءة من أهم أسباب اكتساب المعارف، لكن المجتمع (البيت والمدرسة) هم الذين ينمون فيه هذه العادة أو يصرفونه عنها، إذ لابد أن توضع كل الوسائل أمامه ليكون أكثر ما يشتاق إليه الطفل هو الكتاب، فيصبح الكتاب الصديق الدائم له، والملاحظ في المجتمعات المتقدمة أن الطفل لا يأبه للألعاب الاستهلاكية ما لم تكن ألعابا ثقافية، ومتعته الكبرى في اقتناء الكتاب، وتكوين عادة القراءة هذه مسؤولية الأسرة والمجتمع. يقول الأستاذ علي العايدي، المدير العام للمكتبة الوطنية، عن أسباب تراجع اهتمام الجيل الحالي بالقراءة: هنالك أسباب عامة تمس شرائح المجتمع كافة، وهي تبدأ بالحلقة الأولى منه، ألا وهي الأسرة التي يفترض أن تعمل على ترسيخ عادة القراءة عند الطفل منذ سنواته الأولى، كي يألف القراءة ليصبح الكتاب جزءا قريبا منه، ولا أقصد الكتاب التعليمي وإنما التثقيفي، وإن كنت أعترف بوجود الكثير من الأسباب أو المظاهر التي طرأت على حياتنا ساهمت في صرفنا عن الكتاب، إلا أنني أؤكد على مسألة الاهتمام بعادة القراءة منذ الصغر، لخلق الطفل الراغب بالثقافة والقراءة، وأن تقوم كل جهة بدورها في هذا التأسيس الصحيح نحو مجتمع قارئ، سواء الأسرة والمدرسة والمؤسسات المعنية. ولا يتوقف الأمر على الأسرة فقط، بل يتعدى إلى الطرق والأساليب التي تنتهجها المؤسسات التعليمية في التعزيز أو التقليص من عادة القراءة وبالتالي انحسار الكتاب. ويقول الأستاذ هاني مقداد مدير المكتب الإعلامي في دار الفكر: إن عادة القراءة غائبة لدى جيلنا نتيجة ضعف الطرائق التعليمية في المدارس، لأنها تعتمد على مقررات محددة يلتزم بها الطالب، بعيدا عن طريق اكتساب المعرفة بالبحث والتحليل وتجميع المعلومات من مصادر خارجة عن المناهج المسبق إعدادها، أضف إلى ذلك تقلص دور المكتبات في المدارس، والتي مهمتها تحفيز الطلاب منذ المرحلة الابتدائية على مواصلة القراءة، ونحن نلحظ أن المستوى التعليمي قد انحدر قليلا عن العقود السابقة، ففي الستينات والسبعينات من القرن الماضي كانت هنالك حصص أسبوعية اسمها (المكتبة) تخصص لمطالعة الكتب المتوفرة في المكتبة، كما كانت دور النشر تشكل مرجعا للطلاب في المرحلة الجامعية لإغناء معلوماتهم، إذ لم تكن هنالك كتب جامعية مقررة. بينما نجد أساليب التعليم في الدول الغربية لا تعتمد على ذلك، وإنما هنالك وحدات موضوعية تستند إلى مراجع عدة يمتلك الطالب حرية البحث فيها، وبالتالي تصبح المكتبة المرجع الدائم له، وهذه الطريقة في البحث تحفز على القراءة، وترسخ عادة المطالعة لدى طالب العلم. سعر الكتاب هل للعامل المادي دور في الإحجام عن القراءة ؟ لاسيما إذا عرفنا أن سعر الكتاب لا يتناسب مع المستوى المادي للشريحة الأوسع ضمن المجتمع. لا يرى الأستاذ العايدي في أسعار الكتاب عاملا مهما في انحسار القراءة مبررا ذلك بالقول: إذا كانت لدى القارئ الرغبة في اقتناء الكتاب يستطيع أن يقتطع من مصروفه ولو جزءا بسيطا على مدى الأيام ليشتري الكتاب، أكثر ما هنالك أن الأمر يحتاج إلى بعض الاهتمام بتوفير مبلغ معين لشراء الكتاب، وهكذا جرت العادة لدينا، إذ كنا قديما نوفر من مصروفنا الشخصي على حساب أشياء نحبها في سبيل امتلاك كتاب، وهذا الدافع يعود إلى طريقة حياتية اعتدناها منذ الطفولة . لكن يصر أصحاب دور النشر على اعتبار العامل المادي السبب المهم في انحسار القراءة، إذ يجدون أن هنالك قراء كثرا يحبون اقتناء الكتاب ويقبلون على مطالعة ما هو جديد من إصدارات، لكن سعر الكتاب العالي لا يتناسب مع دخلهم المادي، ويقف عائقا أمام اقتنائه. يقول نبيل نوفل مدير التسويق في دار الآداب اللبنانية: لا يوجد انحسار في عملية القراءة، وإنما المشكلة في تراجع القدرة الشرائية، إذ هناك رغبة شديدة في اقتناء الكتاب المميز، لكن -للأسف- ضعف القوة الشرائية تقف حجر عثرة في احتوائه. ويشاركه الرأي الأستاذ علاء الدين الرفاعي صاحب دار القلم العربي: بأنه على الرغم من ضرورة الكتاب لدى الشريحة الواسعة من الناس، لكن الإمكانيات المادية تمنعهم من شرائه، فالعلاقة واضحة بين ضعف الدخل المادي وتراجع الإقبال على القراءة. والسوريون شغوفون بمتابعة كل ما هو جديد من مختلف أجناس المعارف والعلوم، ويمكن القول إن هذا هو الحال في مختلف الدول العربية، لكن المشكلة أن القارئ ينتمي إلى الطبقة المتوسطة الدخل، فلو كان التاجر يهتم باقتناء الكتاب وبقراءته مثل الموظف لكان الكتاب بألف خير، أما الموظف القارئ فهو غارق في تلبية متطلباته المعيشية المتزايدة باستمرار، مما جعله يعزف عن القراءة . ويؤكد كذلك الكاتب والباحث وصاحب دار نشر حوران يوسف الجهماني أن هنالك عدم توازن ما بين دخل الموظف وأسعار الكتب في بعض البلدان العربية ومنها سورية، إذا علمنا أن المواطن الذي يقتني الكتب هو من الطبقة الوسطى أو الفقيرة بنسبة كبيرة، وهؤلاء دخلهم لا يتناسب مع ما يحتاجونه من كتب لإغناء ثقافتهم، طبعا. وسائل الاتصال بات من المعروف للجميع أن وسائل الاتصال والإعلام والتقنيات الحديثة من فضائيات وكمبيوتر وإنترنيت ، تأخذ حيزا كبيرا من اهتمام الناس، وأدت إلى ابتعاد القارئ عن اقتناء الكتاب، فهل هي وراء إعراض الناس عن الكتاب والقراءة؟ وهل تشكل خطرا حقيقيا على وجود الكتاب؟ لا يرى الأستاذ الرفاعي في وجود وسائل الاتصال أي خطر على وجود الكتاب، فهذه وسائل وجدت في الغرب منذ فترة طويلة، ولم تؤثر على الإقبال على شراء الكتب، بل على العكس ازدادت طباعة الكتب، إذ لا يقل عدد نسخ الكتاب المطبوع في مختلف العواصم الأوربية عن خمسين مليون نسخة، لذلك يؤكد على أن الإمكانية المادية لو توافرت لدى الفرد فلن يتخلى عن الكتاب، لاسيما إذا علمنا أن المعلومة الموثوق بها والتي تترسخ في الذهن أكثر هي المأخوذة من الكتاب مباشرة. كما يوافقه الرأي الأستاذ نوفل إذ لا يعتقد أن وسائل نقل المعلومات الحديثة -كما يرجح بعضهم- سبب لتراجع القراءة، فهي: أنشطة ليس لها علاقة بالكتاب، ولاتؤثر عليه، بل على العكس يمكن أن يجمع الإنسان بين أكثر من نشاط خلال ساعات يومه، فلكل وسيلة خصوصيتها وفوائدها، فالإنترنيت لاتغني عن الكتاب كما أنها لا تلغي وجودة. ويمكن لوسائل الاتصال أن تأخذ من وقتنا بعض الشيء، لكن إذا كانت عادة القراءة متأصلة لدينا، سنجد أنها حاجة ماسة في حياتنا الفكرية والعملية، وبقليل من التنظيم نوفر لكل نشاط حقه من الاهتمام والوقت. ويذهب الأستاذ عدنان سالم صاحب دار الفكر إلى أن: وسائل الاتصال والإعلام هي وسائل مساعدة لتعميق البحث والقراءة، وينبغي أن تقوم بواجبها من أجل دعم الكتاب والتعريف به، وهي تخدم الكتاب من حيث لا تشعر، فنحن الناشرين الذين يعيشون الهم الثقافي نعرف تماما أنه عندما تتناول وسائل الاتصال المختلفة شخصية تاريخية مثل هارون الرشيد فإن الناس يبدأون بالبحث في المكتبات عن كتب تتعلق بهذه الشخصية المطروحة، وبالتالي هي محفز للقراءة، وتؤكد في الوقت نفسه على عدم اكتفاء المشاهد بالتوثيق التاريخي والمعلومات التي تعطى عبر وسائل الإعلام، فهم يحرصون على توثيقها بالكتاب، الذي يبقى المرجع التاريخي الأهم للحصول على معلومات صحيحة من وسائل الإعلام الأخرى. الكتاب الإلكتروني وكان من نتائج تقدم وازدهار التقنيات الحديثة أن ظهر الكتاب الإلكتروني، وحقق عبر الإنترنت انتشارا واسعا ، فأخذ بعده وشكل تقديمه، و أكد إمكانية الاستفادة الواسعة منه والتزود بالمعرفة عن طريقه. والسؤال هل سيلغي وجود الكتاب الإلكتروني مع مرور الزمن وجود الكتاب الورقي أم أنه سيبقى ضمن إطار معين له ؟ يقول الأستاذ الجهماني: إن انتشار الكتاب الإلكتروني في وقتنا الحالي محصور بين فئة من طلاب العلم والباحثين الذين يعنون بالمراجع لتساعدهم على تنفيذ دراساتهم، أما بالنسبة للكتب الإبداعية من الشعر والرواية والقصص القصيرة، فالمثقف لايمكنه الاستغناء عن قراءة الكتاب الورقي، وهو لن يلجأ إلى الكتاب الإلكتروني، ولابد له من العودة إلى الكتاب التقليدي. في حين لا يبالي الأستاذ عدنان سالم بالوعاء الذي تستقر فيه المعلومات، ويقول: نحن نعيش في عصر يشهد تحول الكتاب من وعائه الورقي إلى وعائه الإلكتروني، بشكل الأقراص الممغنطة وعبر شبكة الإنترنت، حيث تنساب المعلومات بسهولة ويسر إلى كل أنحاء العالم، ولأكبر عدد من البشر، في حين أن الكتاب الورقي لا يطبع منه إلا بمعدل ألف إلى ألفي كتاب بأحسن تقدير. كانت المعلومات تختزن في السابق بوسائل متنوعة قبل أن يتم اختراع الورق، ثم استقرت في الورق زمنا طويلا، والآن تحول من الورق إلى الأوعية الإلكترونية، وإذا تحول الكتاب من الورق إلى الإنترنيت وبقي الناشر عند الورق، سيسقط مع الورق، وسيصبح نشر الكتب الورقية من المهن المنقرضة، ولابد أن نتغير مع التحولات التكنولوجية الجارية، والمهم أن تستقر عادة القراءة في المجتمع. وتبقى الأسباب كثيرة وازدحامها في مقال واحد أمر شبه مستحيل، لكن حاولنا عبر هذه السطور أن نكشف اللثام عن الأسباب الأساسية علنا نؤمن بضرورة تضافر الجهود كي نستطيع عبر القراءة إعادة إنعاش وتجديد الفكر العربي المعاصر.