الحوار ..نهج حضاري..!
لست من أنصار الارتهان والافتتان بالقديم لمجرد أنه ماض جميل والحنين إليه كموضة لدى البعض. إنما يستفزني ما أراه من تغير بسرعة الصاروخ في تركيبتنا الذوقية والمشاعرية في مجمل ظواهر وتفاصيل الحياة، فما الذي حدث؟ وكيف أصبحنا مادة خامة يعاد تشكيلها حسبما يريد الآخرون، وأين أصالتنا. إن انتصار الغرب وتفوقه أبهرنا بطريقة لم تترك لنا مجالا لالتقاط أنفاسنا، بل قررنا وبطريقة غريزية تقليده، لأن ذلك بتصورنا هو السبيل الأقصر لما وصلوا إليه، متناسين في غمرة انبهارنا ذلك بأن تداعيات عديدة وتراكمات معرفية واجتماعية كثيرة تفاعلت في ظروف تاريخية معينة منتجة تلك الحضارة بكل امتيازاتها وعيوبها. وللتقليد أنواع مختلفة، نرصد بعض مظاهرها بشكل يكشف لنا مدى تورطنا فيه. فالجمال، وهو قيمة عميقة وواسعة ذات مدلولات فنية وفلسفية وزمنية وأدبية، قد أخذ النموذج الغربي على أساس أنه المثال والقيمة، وتتحدد درجة القيمة الجمالية لأي موضوع بدرجة تحقيقه لتلك المقاييس. فعارضات الأزياء هن المثل في الجمال، وكل نسائنا يجرين نحو النحافة ومحاولة قولبة أجسادهن حسب الوصفة الجاهزة على الشاشات الفضية أو أغلفة المجلات بمختلف اهتماماتها، وحتى السياسية منها. والموسيقا اختلط فيها الغربي بالهندي بالتركي، فأصبحت توليفة غريبة وناشزة، فغاب التأثر والتفاعل وحلت مكانه السرقة الفنية بل والنسخ الحرفي وبدون تغيير ولو جملة واحدة. وبتنا - وفي سياق سلوك استهلاكي غريب - ننسى اسم الأغنية السابقة للنجم الفنان أو للمطربة الفنانة، بل وفي كثير من الأحيان نتذكر وجوه الفتيات الحسناوات والموجودات في كل الأغاني، ولا نذكر أي مقطع من هذه الأغاني الاستهلاكية التي لا تحمل أية قيمة فنية أدبية أو وجدانية. نرتدي الثوب أو البدلة، وسريعا نقرر الانتقال إلى غيرها، لماذا؟ لأنها أصبحت موضة قديمة، فعدد الأزرار تغير من ثلاثة إلى أربعة، والفتحة على الجانبين ألغيت، وهكذا فالسيارة موديل السنة السابقة تخسر ربع ثمنها لأنها موضة السنة السابقة.. ياه. لم نعد نقيم الأشياء بقميتها الفعلية أو جودتها، بل بعدة عوامل أخرى تؤمن لنا صفة أننا على الموضة رغم ما يكلفنا ذلك من مبالغ. هل أصبحنا مجرد استهلاكيين للحضارة غير مساهمين فيها، هل غاب المبدعون وأصبحت ثقافتنا اتكالية. كيف لنا أن نعود إلى إسهاماتنا في الحضارة العالمية بدون عقد نقص أو بدون التغني فقط بأمجاد الماضي. إن أول وأخطر عامل يجب التوجه إليه هو الثقافة بمفهومها الواسع بما فيها التعليم، والأفكار العامة، والقواسم المشتركة للمجتمع، فيجب إحلال ثقافة العمل وقيمته التي تنعكس على الفرد، وليس ثقافة الفهلوة والقفز فوق القوانين، وعندما يتم تغيير ثقافة العمل تتغير النظرة تجاه نوعية العمل وتقسيمه بشكل مظاهري وليس بشكل فعلي، أو ما يقدمه من قيمة حقيقة للمجتمع، أو مساهمته في العملية الاقتصادية. والتعليم التقليدي هو ضياع للوقت بشكل كبير، ولكن كيف يمكن تعديله، والقائمون على ذلك قد تلقوا تعليما تقليديا. إن آفاقا واسعة من سعة الصدر يجب أن يتحلى فيها كل منا، وذلك لاستيعاب الطرف الأخر في حواراته وآرائه، لنخرج جميعا بنتائج تكون قابلة للتنفيذ وتفيد في كسر تراكمات التبعية للآخرين، وعدم الثقة بالنفس والاستهلاك لمجرد الاستهلاك، ومنافسة الآخرين فقط بالتغني بالماركات اللامعة والموديلات الشهيرة. إن ذلك كله هو القشرة الخارجية، فما الذي يوجد بالداخل، المضمون ما هو، أي لدى سؤال أي شخص عن عمله وعن فكره، وليس عن ملبسه أو نوع سيارته أو ماركة نظارته الشمسية، فما هي الإجابة، ذلك هو المهم.