السيد ياسين: فشلت في أن أكون محاميا.. شاعرا.. قياديا
إذا كان النجاح ضروريا للمزيد منه ولاستقامة الفعل وتأكيد التطور فإن الفشل لا يقل في ضروراته عن ضرورات النجاح بما يخلق من إحباط ثم تغيير واقع ثم تطوير، إنه الدور الإيجابي للفشل إذا جاز لنا التعبير، وهو جائز. وفي حياتي كانت هذه المعادلة بالغة الوضوح، فقد كان فشلي هو مقدمة نجاحي، وكان إخفاقي هو أساس التحول والتطور عندي. وأعترف في تواضع بأنني لم أفشل في حياتي ذلك الفشل الكامل ولا ذلك الفشل الساطع، أي الفشل الذي لا يأتيه النجاح من أي باب. ولذا فإن مفهوم التحول هو الأكثر تفسيرا لحياتي أكثر من مفهوم الفشل والإخفاق. كان من الممكن أن أكون قياديا بارزا في جماعة الإخوان المسلمين، وكان من الممكن أن أكون شاعرا مقبولا أو أديبا كبيرا، وكان من الممكن ثالثا أن أكون محاميا ثريا وشهيرا وعدة صنائع أخرى. ولم أفشل بالطبع في أي طريق قدر تحولي منه إلى طريق مغاير، ولست أدعي هنا ذكاء أو قدرات خارقة، ولكن هذه الخيارات لم يكتب لها الصمود والاختبار. بداية فلسفية كان كتاب الفيلسوف هوايتهيد الشهيرمغامرات فكرية صاحب الأثر الأكبر في حياتي، وما زلت أحتفظ بنسخة من هذا الكتاب حتى الآن، كان الكتاب صعبا، ولكنه كان ممتعا ومفيدا، ومثل بالنسبة لي لحظة الاكتشاف الأولى. وفي هذه الفترة اكتشفت مكتبة علم النفس التكاملي التي يشرف عليها أستاذنا يوسف مراد، ودخلت مجال علم النفس من أوسع أبوابه. وقد امتدت هذه الفترة من عام1946 م إلى عام 1952م، وفي هذه الفترة أيضا كنت أتلمس طريقي داخل عالم الشعر، وكنت بالغ الإعجاب بالشاعر الرهيب تي إس إليوت وبدأت في هذه الأثناء أولى تجاربي في كتابة الشعر والقصة القصيرة، وتكونت مجموعة من الأصدقاء من محبي الأدب كانوا يجتمعون في منزلي في حي راغب باشا بالإسكندرية للمناقشة والاستماع. وهنا محطة فشل لنا جميعا نحن المجتمعين في منزلي من المبدعين الصغار، فلم يصمد أكثرنا أمام متطلبات تجربة الإبداع ولم يكمل أحدنا الطريق. ولكنني لم أجد الفرصة للشعور بالفشل، إذ سرعان ما انتقلت إلى كتابة الخواطر والتأملات والمقالات الفلسفية ثم كانت نقلة أخرى. كنت عضوا في الإخوان المسلمين عام 1950م يمثل نقطة تحول بارزة في حياتي، كان لها أثر بالغ في بناء شخصيتي وفي تكويني. ففي هذا العام استطاع أحد زملائي بالمدرسة أن يضمني إلى الإخوان المسلمين، وسرعان ما أصبحت أخا، وكنت نشيطا وحيويا وموضع انتباه من الإخوة، وقد أمل في الكثيرون الخير على هذا الطريق، وعلى ذلك فقد رشحت لأكون دارسا في مدرسة الدعاة بشعبة محرم بك في العطارين بالإسكندرية، وكان المشرف على المدرسة شيخا أزهريا ضريرا يعمل مدرسا في المعهد الديني بالإسكندرية وهو المرحوم الشيخ مصطفى الشمارقة. كنا ندرس القرآن الكريم والحديث الشريف والفقه والسيرة في مدرسة الدعاة، كما كنا ندرس المذاهب السياسية المعاصرة، وقد طالعنا في هذه الأثناء كتابات أبي الحسن الندوي وسيد قطب والشيخ الغزالي. كان الشيخ الشمارقة ذا أثر بالغ في حياتي كلها، وأذكر جيدا أنه كان معجبا بالدكتور طه حسين وكان يهفو إلى تقليده في الجمع بين الدراسة الأزهرية والدراسة الحديثة، فالتحق بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، واختارني الشيخ الشمارقة مع مجموعة من الأصدقاء فأصبحت قارئا مستديما له. قرأت مع شيخي كل مقرراته، ودرست معه كل المناهج، وكانت كلية الآداب وقتها زاخرة بمجموعة رائعة من الأساتذة الموهوبين، وتخرجت في مدرسة الدعاة خطيبا إسلاميا معتمدا، وكنت أمارس الخطابة باقتدار في مساجد الإسكندرية حسب التكليفات التي تصدر من قبل الإخوان المسلمين وكان تقليد الإخوان تنمية القدرة على الارتجال المدروس. وقد استطاعت مدرسة الدعاة أن تغيرني بالكامل، من صبي خجول منطو يقبع بالساعات في غرفة منفردة لكي يقرأ إلى صبي يتسم بشخصية انبساطية لديه القدرة على مواجهة الجماهير في صلاة الجمعة من كل أسبوع. أفادني هذا التدريب المبكر على الخطابة فيما بعد حين أصبحت باحثا ألقي البحوث في المؤتمرات العلمية أو محاضرا في جامعة القاهرة والجامعة الأمريكية. وهنا أقول من جديد إن هذه محطة نجاح بقدر ما هي محطة فشل، وقد نجحت في أن أكون محاضرا واضحا وقادرا ولكنني بالطبع فشلت في أن أبقى خطيبا وفي أن أكمل مسيرة الجمعة من كل أسبوع. واليوم وأنا أتذكر بدايتي في الدعوة ثم استكمال حياتي في البحث، فإنني لم أكن أتوقع أبدا هذا التحول. كان ارتباطي بالإخوان المسلمين وصعودي على المنبر قد ملأني، واعتبرته بداية ونهاية الطريق بالنسبة لي، والعادة أن خطباء المساجد يتطلعون إلى التجويد والامتياز وإلى الشهرة والذيوع، وهم على ذلك يرون مستقبلهم في مهنتهم أو رسالتهم. بمعنى أدق الخطيب يهفو إلى أن يكون شيخا والشيخ إماما وهكذا، ولو أنك سألت أيا منهم ماذا ترغب أن تكون، سيجيبك بمثال من الماضي، حيث كان أئمة الدعاة والفقه وعلماء الدين هم سادة عصرهم، أو بمثال من الحاضر من أئمة الدعوة المشاهير وذوي السطوة عند الجمهور، ولكنني إذ فشلت في أن أكمل الرسالة أو أحافظ على المهنة فقد أبقيت اهتمامي بأئمتها وقادتها ومفكريها في كل زمان. ولا أعرف ماذا كنت فاعلا فيما لو لم تكن لي هذه التجربة في حياتي، فلكم كانت مؤثرة في اللغة والبيان والتعبير وفي المعارك والمجادلات وفي الحوارات والصراعات، أو هي نصف مهنتي اليوم على الأقل. الطريق إلى كلية الحقوق أراد والدي أن أكون طبيبا وأردت أن أكون كاتبا. بدأت بالخطابة وانتقلت إلى الأدب ودخلت كلية الحقوق وعملت بالبحث. هذه هي مراوحات الفشل والنجاح. كانت الثانوية العامة في حينها تتضمن نظام عقد مسابقات علمية يتقدم لها الطلاب في تخصصات مختلفة، ومن ينجح يضاف إلى مجموعه النهائي في درجات الثانوية العامة عشرون درجة، وكانت المسابقات تعقد على مستوى الجمهورية بناء على نظام بالغ الدقة في اختيار الناجحين في ضوء اختبارات تحريرية وشفهية. كنت في مدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية، وقررت أن أدخل مسابقة اللغة العربية، وكان المقرر الذي سوف أؤدي فيه اختباري التحريري كما يلي: دراسة ديوان حافظ إبراهيم ومسرحية مصرع كليوباترا لأحمد شوقي ومع المتنبي لطه حسين وتميز مستوى المسابقة بالصعوبة والقوة، وكان علينا أن نقرأ ونحلل هذه الآثار الأدبية العميقة، وكان لهذه المسابقة نفسها أثر كبير وممتد على مساري الفكري، تحداني مدرس اللغة العربية أن أنجح فانكببت على الدراسة استعدادا للاختبار وقد اجتزت التحدي بنجاح. وبعيدا عن المقررات الدراسية الجامدة فتحت لي المسابقة عالم طه حسين وأتاحت لي مبكرا فرصة تقويم شاعرية أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، ولكني على هذا الاستعداد الأدبي لم أكمل الطريق بالالتحاق بكلية الآداب في أقسام الفلسفة واللغة العربية، وقد حاول والدي دفعي إلى الدراسة العلمية والتخصص في العلوم لكي أكون طبيبا، لكنني تعثرت في دراسة العلوم، ودخلت كلية الحقوق بالصدفة، لقد نجحت بمعجزة في الثانوية العامة، ولم أجد أمامي سوى كلية الحقوق، وهناك تأثرت كثيرا بالدكتور حسن صادق المرصفاوي أستاذ القانون الجنائي الذي كان ثاني من أثر في بعد الشيخ الشمارقة، فقد أسس د. المرصفاوي تقاليد البحث العلمي في الجامعة بتأسيسه جمعية الأبحاث الجنائية التي دربت أعضاءها على كتابة البحوث العلمية والمناظرة، وسمحت لهم من خلال الزيارات الميدانية للسجون بالتعرف مبكرا على الفجوة بين النص القانوني والواقع، وقد قدمت بحثا عن جرائم التزوير تم طبعه وتوزيعه على أعضاء الجمعية، وهو أول عمل بحثي مهم بالنسبة لي، وكان حافزا لي على خوض غمار البحث العلمي في وقت مبكر، كما وضع د. المرصفاوي تقليدا إنسانيا رفيعا بأن أسس فكرة أن الطالب يمكن أن يكون صديقا لأستاذه، وهذه مسألة صعبة، وكانت نادرة في الخمسينيات، فكان يدعو بعضنا لزيارته في منزله فنتناقش معه ومع زوجته لساعات طويلة. تخرجت في كلية الحقوق بتقدير جيد، وضاع حلم كل الحقوقيين بدخول سلك النيابة، ولم أكن أرغب في عمل المحاماة الطويل بالعمل تحت التمرين ثم التدرج حتى افتتاح مكتب خاص. الطريق إلى البحث في هذه الأثناء نشرت صحيفة الأهرام إعلانا عن حاجة المعهد القومي للبحوث الجنائية (المركز القومي للبحوث حاليا) عام 1957م إلى باحثين مساعدين من خريجي الحقوق والآداب، تقدمت للاختبار التحريري مع 300 خريج، وكان المطلوب 3 فقط، وتمت التصفية الأولى إلى 25 خريجا، ثم تقدمنا للاختبار الشفهي فاجتزته لإجادتي اللغة الإنجليزية قراءة وكتابة على عكس الحقوقيين الذين يجيدون الفرنسية، وانضممت إلى المركز الذي أمضيت فيه 18 عاما، وتركته عام 1975م لكي أصبح مديرا لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام. سافرت للدراسة في باريس لكي أعد رسالة الدكتوراه في القانون، وذهبت وذاكرتي مشحونة بمغامرات توفيق الحكيم ومحمد مندور في فرنسا، ربما كنت معجبا بالحكيم الذي سافر لدراسة القانون وانصرف إلى دراسة الأدب، وذلك مندور الذي أمضى 9 سنوات ولم يكمل رسالة الدكتوراه في القانون وإنما ساح في عالم الفكر والأدب. درست عاما ونصف العام القانون المدني الفرنسي ثم ضقت ذرعا بقواعد المواريث الفرنسية المعقدة، فتركت القانون لكي أتعمق في دراسة علم الاجتماع، وهنا محطة فشل جديدة إذا أردنا إبقاء المفهوم، فقد تركت القانون إلى الاجتماع، واهتممت بعلم الاجتماع الأدبي الذي كان لايزال ناشئا وقتها عام1964 م وكذلك علم الاجتماع السياسي، قلت لنفسي لتذهب الدكتوراه إلى الجحيم، فليس من المعقول أن يضيع باحث مثلي ثلاث سنوات من عمره يتعقب أحكام محكمة النقض، عدت بعد ذلك إلى القاهرة في عام 1967م وهو عام الفشل في مصر: النكسة والهزيمة والمرارة، وهنا اتجهت إلى دراسة المجتمع الإسرائيلي دراسة علمية، وانضممت إلى مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية بالأهرام عام 1968م، كان تأثير محمد حسنين هيكل على تكويني في هذه المرحلة عميقا، فقد كان هيكل هو الذي فتح أمامنا آفاق البحوث الاستراتيجية حين قرر تحويل المعهد إلى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، ودفعني هذا التحول إلى التعمق في دراسة مناهج ونظريات البحوث الاستراتيجية. وإذا كانت هذه هي رحلة عمر، فشل هنا ونجاح هناك، فإنني أشعر تماما بالرضا، وبأن الفشل كان تحولا أكثر منه إخفاقا، وأن النجاح كان حياة أكثر منه إنجازا، وأعترف بأن نجاحي الأكبر الذي شاء الله له الغياب هو زوجتي ليلى عبد العزيز رحمها الله التي تغطي ذكراها عندي على ما كان من نقص وارتباك. وكم أتمنى أن تمضي حياتي الآن بمثل ما كانت مزيجا من التحول والتطور.