استنبات أعضاء بشرية.. لم يعد ضربا من الخيال!
خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي شهدت جراحات التجميل ثورة حقيقية، وتطورت تطورا ملحوظا بحيث أصبح هناك العديد من التخصصات الفرعية الدقيقة، ولم يقتصر الاختصاص باعتباره تجميليا بل أصبح اختصاصا ترميميا وتكميليا ولإصلاح العضو المصاب وإعادة تأهيله. وأصبحنا نسمع عن اختصاص جراحة تجميل الرأس والرقبة.. وتخصص جراحة تجميل اليد وجراحات تجميل العيون والجفون كتخصصات دقيقة مستقلة. وقد استفاد أطباء الجراحة التجميلية كثيرا من تطور الجراحة الدقيقة والتقنيات الحديثة المبتكرة في هذا المجال وكذلك الجراحة الميكروسكوبية، وجراحة الشرايين والأوعية الدموية. لقد ساهم الميكروسكوب الجراحي إسهاما كبيرا في جراحات التكميل والترميم وإعادة البناء.. فبواسطته أصبح في الإمكان إجراء جراحات متناهية الدقة يتخللها توصيل للأوعية الدموية والأعصاب والأطراف العضلية.. وبفضله أصبح في الإمكان إجراء جراحات إعادة توصيل الأجزاء المفقودة من الجسم.. ترميم العظام! يؤكد الدكتور جوفيري روب رئيس قسم الجراحة التجميلية في مستشفى إم دي أندرسن في هيوستن تكساس أن ترميم العظام وتجبيرها أمر يحتاج إلى الكثير من الدقة والمهارة في العمل الجراحي، ويعتبر العمل الجراحي التجميلي أقرب للفن حيث إننا وفي كثير من الأحيان نعتمد على استخدام فن النحت والترميم. فنحن لا نرمم العظم فقط بل علينا تجميل ما يحيطه من عضلات وجلد أيضا، لذا نحن مطالبون بترميم العضلات أو الأنسجة التالفة أيضا. هذا النوع من العمليات يتطلب مهارة خاصة في جراحة الأوعية الدموية، حيث إننا نعمل على نقل الأوعية الدموية في الأنسجة العضلية أو الجلدية وكذلك العصبية. على سبيل المثال، عندما نحتاج إلى استخدام مساحة كبيرة من الجلد لترميم الوجه نعمل على نزع قسم كبير من الجلد من أي منطقة أخرى بالجسم مع الأوعية الدموية واستخدامها في ترميم الوجه، وهذا أمر ليس بالسهل إطلاقا. عمليات معقدة وتعد جراحات تجميل الرأس عمليات معقدة ومتقدمة جدا وهي عمليات جراحية عالية المستوى بقدر ما هي لمسات فنية راقية تمنح البسمة وتحقق التوازن النفسي للمرضى الذين يعانون التشوهات، خلقية كانت أم بسبب بعض الحوادث أو الأمراض. وهكذا أصبحت جراحات التجميل من أكثر التخصصات الجراحية تقدما وتطورا على الإطلاق لما لها من دور في إعادة الثقة بنفس المرضى، وبخاصة هؤلاء الذين تعرضوا إلى تشوه في الوجه بسبب سرطانات أو حوادث كما ذكرنا. فعلى سبيل المثال أصيب السيد( أ.ج بيكر ) بسرطان الأنف والشفة العليا الأمر الذي منعه من مقابلة الأصدقاء أو العمل حيث إن حالته تطلبت استئصال الأنف بكامله. ومثل هذه الحالات كانت حتى وقت قريب نسبيا ليس لها علاج.. وكان بعض الناس يلجأ إلى استخدام مجسم مطاطي يشبه الأنف لتقليل حجم التشوه الناتج عن غياب الأنف. أما الآن فقد أصبح لمثل هذه الحالات الصعبة علاج بفضل التطور المذهل في جراحات التجميل، وقمنا بإعادة تركيب الأنف للمريض وهذه العملية لم تتطلب تركيب الشكل الخارجي فقط بل عملنا على إعادة تكوين جميع طبقات الأنف الثلاث.. الجلد الخارجي المبطن للأنف، الغضاريف والعظام، والغشاء المبطن للأنف، فهي لا تهدف فقط إلى إصلاح الخلل الجمالي.. وإنما أيضا تهتم بالجانب الوظيفي.. وعملنا على بناء الطبقة الجلدية الخارجية للأنف باستخدام شرائح جلدية من الجلد المحيط بالأنف بعد تمديد الجلد باستخدام تقنية البالون التي تساهم في توفير جلد إضافي كاف للجراحة.. وقد يعتمد بعض الأطباء على استعمال جلد الجبهة وأحيانا باستعمال شريحة جلدية من خلف صيوان الأذن.. ويتم استخدام شرائح عظمية وغضروفية لتشكيل هيكل الأنف.. مثلا.. من عظام الحوض. جراحة دقيقة ويؤكد جيفري روب أن التطور الذي توصل إليه الجراحون في الجراحة الدقيقة ساعد الكثير من المرضى ليس فقط بإعادة تشكيل أجزاء من جسدهم بل أعاد إليهم ابتسامتهم وثقتهم للانخراط في المجتمع، وأن يساهموا في تشكيل حياتهم وذلك بإعادة إقحامهم في الحياة بعد أن يعيدوا لهم ثقتهم بأنفسهم. ويشرح الدكتور روب قائلا: الحقيقة أن هذه التقنية تساعد الأطباء على ترميم العضلات والجلد والعظم وتوصيل هذه الأجزاء بخلايا الدم، فنحن نقوم أحيانا بنقل أوعية دموية لا تتجاوز 2 ملم، ونحن حريصون على نقل أوعية دم المريض نفسه لأنها تؤمن الدم للعضو بشكل أفضل، وإمكانية الرفض أو فشل الزرع تكون بسيطة جدا حوالي 3? فقط وتساعد على الشفاء الأولي للعضو المصاب، الأمر الذي يساعد المريض للتماثل للشفاء بشكل عام وأسرع حتى يتابع علاجاته الأخرى، خصوصا بالنسبة إلى مرضى السرطان اللذين يحتاجون إلى العلاج الكيميائي أو غيره. في المستقبل القريب نأمل من التوصل إلى استنبات هذه الأنسجة سواء كانت عظمية أم عضلية أم جلدية في المختبر، ومن ثم استخدامها في عمليات التجميل، وبذلك نريح المريض من عملية نزع كمية من الشحم أو العضل أو العظم من الجزء السليم في الجسم إلى العضو المعتل. حيث إننا في عمليات الترميم نعرض المريض لعدة عمليات لأخذ الأجزاء والأنسجة المطلوبة، فقد تعرض مريض ـ أجرينا له عملية إعادة تركيب فك ولسان وحنجرة بسبب إصابته بسرطان الفم ـ لعدة عمليات، لأننا استخرجنا جلدا وعظما وغضاريف من عدة مناطق مختلفة كالجبهة وعظم القدم وعضلات الظهر الخلفية لإعادة الفك والبلعوم والحنجرة لمساعدته في البلع والكلام. كانت عملية متناهية الدقة استغرقت حوالي 15 ساعة حيث أكد المريض أن هذه العملية بقدر ما هي معقدة بقدر ما أعطته أملا في الحياة فهو لم يكن باستطاعته مقابلة الناس دون ضمادات من الشاش تغطي كامل وجهه. ويبقى الأمل في إمكانية استخدام تقنيات أفضل لعلاج مثل هذه الحالات خصوصا بعدما لاحت بشائر الأمل في إمكانية استخدام أنسجة عظمية وجلدية بالمختبر، فقد توصل الباحثون في مستشفى إم. دي. أندرسون في مدينة هيوستن ولاية تكساس إلى استنبات خلايا عظمية في المختبر. ترميم الكسور! يوضح البروفسور مايكل ميلر استشاري الجراحة الترميمية والتجميلية من جامعة تكساس وقسم الأورام بمستشفى إم. دي أندرسون الآلية المعتمدة في ترميم الكسور قائلا إن الأطباء كانوا يجدون صعوبات كبيرة في ترميم بعض الكسور خصوصا تلك التي تتعرض إلى تلف شديد سواء بسبب بعض الأورام أو الحوادث المرورية أو غير المرورية، حيث إن آلاف الأشخاص يتعرضون لعمليات ترميمية وتجبيرية خلال العام الواحد. وكنا في معظم الحالات نلجأ إلى تقنية روتينية تعرف بتقنية تطعيم العظم، وهي تعتمد على أخذ قطعة عظم من أي مكان في الجسم وعلى الأغلب من عظم الحوض أو القصبة ويطعم بها العظم في المكان المعطوب، إلا أن هذه الطريقة لم تف بالغرض المطلوب بشكل تام إضافة إلى أنها تعرض المريض إلى عمليات جراحية مؤلمة، ويمكن أن ينجم عنها مضاعفات أخرى. كما أن عيوب العظام الكبيرة على وجه الخصوص يصعب علاجها أحيانا، لأن الكسور الكبيرة تلتحم بالتندب بدلا من الالتئام الكامل. والأصعب من ذلك تلك التي تكون في الفك أو الوجه كما يحدث للمرضى المصابين بسرطان الفك. لذا فقد فكرنا في طرق كثيرة لإنقاذ هؤلاء المرضى، إلى أن توصل الباحثون في مركز إم. دي أندرسون إلى فكرة استخدام خلايا المريض في استنبات خلايا عظمية في المختبر. وتتلخص هذه التجربة بصب قالب مجوف له نفس شكل العظم المطلوب تركيبه، ومن ثم يملأ القالب بخلايا ناضجة تعزل من خلايا المريض نفسه وتوضع مع العامل المساعد على النمو، وبعد أن تنمو الخلايا وتتكاثر يتم زرعها جراحيا في المكان المطلوب حيث يوجد خلايا طبيعية من العظم والغشاء العظمي والتي بدورها سوف تمتزج وتنمو داخل القالب لتكون العظم الجديد. تجربة ناجحة ومبدئيا تعد التجربة ناجحة، إلا أن الأبحاث ما زالت مستمرة للتعرف على العامل الرئيس الذي يساعد الخلايا الناضجة كي تتحول إلى نسيج عظمي طبيعي جاهز للتركيب، وكذلك إمكانية استخدام هذه التقنية على الإنسان، ويأملون في التوصل إلى نتائج جيدة في السنوات القليلة القادمة. وأضاف البروفسور ميلر أن عملية استنبات أعضاء بشرية لم تعد ضربا من الخيال العلمي، فقد توصل أيضا الدكتور رين دي سوزا استشاري طب الأسنان إلى استنبات أسنان فأرة في المختبر.. ومع هذه التجارب والنجاحات التي تحققت في مجال جراحات التجميل والترميم من تطور إلا أننا نعتبره بداية لطريق مشرق، وأن المستقبل القريب يحمل الكثير من الأخبار السارة لمرضى التشوهات الخلقية المؤلمة والصعبة.. خصوصا بعد اكتشاف معظم الشفرات الوراثية.. لذا نأمل أن تتطور كل هذه المحاولات لما فيه خير البشرية.